Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

ومن أغنية إلى أخرى رائجة على شبكة الإنترنت، سيتكشّف له عالم هامشي مهمل في ماكينات السلطة الإعلاميّة؛ عالم نغمي يتحدّث لغته، ولا يوارب، أو يُهادن، أو يؤمن بأي خطوط حمر.

نسرين حمود

مكبّرات الصوت 'خافتة'" في '"انتفاضة لبنان'""

"

تغيب الأغاني "المُلهمة" عن "انتفاضة لبنان"؛ الحركة الاحتجاجيّة الفوضويّة التي خرجت إلى الشارع في 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، بعد تسرّب إخباري عن ضريبة مُرتقبة على تطبيق "واتسآب" في مشروع موازنة العام 2020، تفتقد الإيقاع الموسيقي الذي يُسيّرها.

في نعي وزير الخارجيّة الألماني لمغنّي الـ"روك" البريطاني ديفيد بوي (1947-2016)، يشكر الأوّل المتوفّى لـ"مساعدته في سقوط جدار برلين"، فقد كان بوي مُلهماً للشباب في ألمانيا الشرقيّة، حين هبّوا ليل 9-10 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، وحطّموا الجدار الإسمنتي الذي فصل بين الألمانيتين لمدة 28 سنة.

كان بوي قد قدّم في الجانب الغربي من برلين في العام 1987 حفلاً حضره 70 ألف شخص، وتردّد صدى أغنيته "هيروز" (Heroes) في صفوف شباب ألمانيا الشرقيّة القريبين من الجدار، فنادوا مذّاك بإسقاطه.

الأغنية مستوحاة من قصّة حبّ منتج أغنيات بوي، طوني فيسكونتي، لمغنية في الـ"كورال". تقول كلماتها: "(...) أتذكر أنّنا كنَّا واقفين إلى جانب الجدار. أطلقوا الرصاص فوق رؤوسنا. قبّلتك كأن شيئاً لم يحدث. العار على الجانب الآخر. آه، لو يمكن أن نصدّهم إلى أبد الآبدين. عندئذ سنكون أبطالاً ليوم واحد".

بخلاف دور هيروز في سقوط جدار برلين وتغيير وجه التاريخ، يصعب الحديث عن أغنيةٍ أو أغانٍ ملهمة لـ"انتفاضة 17 تشرين"، إذ يتألّف المشهد الموسيقي والغنائي في ساحات الاحتجاج من صور عدة متنافرة.

في الصورة الأولى، تبدو جموع تقطع الهتافات المقرّعة زبائنية النظام بأغنيات الـ"بوب" اللبنانيّة والعربيّة الرائجة ("إنساي" مثلاً). وفي الصورة الثانية، جموع أقلّ عدداً تُتبع عباراتها الداعية إلى إسقاط "حكم الأزعر" بترديد الأغنيات الشعبيَّة "الوطنيّة" التي تُمجِّد الجيش اللبناني.

وفي الصورة الثالثة، جموع متيقنة من أنَّ علَّة لبنان في نظامه، تنهل الأغنيات اللبنانيَّة والمصريَّة التي تنتمي إلى إرث فنّي يساري ("شيّد قصورك" للشيخ إمام على وجه الخصوص)، أو تستمع إلى أداء حيّ من فنّانين عرفوا عصراً ذهبيّاً فترة صعود اليسار اللبناني، لكنّهم حادوا عن منهج اليسار بعد ذلك، وطبّلوا لمشاريع سياسيّة أسّست للخراب الراهن.

بين الخلطات النغميَّة، تتقدَّم حلقات الدبكة الفرحة والرقص البلدي المشهد "الغاضب" من سلطة أمعنت في الفساد، وذلك في تضاد لم يخلُ من نقد، لكنّ القراءة المتأنية للمشهد الفوضوي تفيد بأنّ الحركة الاحتجاجيّة المنبثقة من 17 تشرين، والسائرة على نغم أغنيات ينتمي معظمها إلى "عصر الانحطاط الغنائي العربي"، تعيد استعادة المكان العام، الذي كان شبه ممنوع على غالبيّة الناس قبل التاريخ المذكور، سواء لارتباط المكان العام (وسط بيروت مثلاً) برأسمال يتطلَّب أشكالاً مُحدّدةً من الهندام، والانتماء إلى طبقة اجتماعيَّة معيَّنة لولوجه، أو لسيطرة أحزاب بعينها على بعض ساحات المناطق (صور، مثلاً، وطرابلس، وبعلبك)، ما كان يفرض عليها الصراخ بأصوات مضبوطة أو بثّ أغنيات تعلي من شأن "قائدها".

بعد أن استعار المنتفضون ممّا حضر من "تلوّث سمعي"، تفتّقت القريحة على إنتاجات جديدة من رحم الحركة الاحتجاجيَّة، فاختلط عندئد حابل النيّة الحسنة بنابل التسرّع، وإن كان بعض الأغنيات الجديدة عرف الرواج في ميادين "الانتفاضة"، فيما بعض الآخر لاقى رواجاً في الفضاء الافتراضي.

وكان من حسنات المشهد الغنائي الجديد القاصر عن اللحاق بنبض "الانتفاضة" وأصواتها المُطالبة بالتغيير، أنّه لفت إلى طبقة من المغنّين الذين احتلوا الشاشات قبل 17 تشرين، واحتجبوا فجأةً، ولم يشاركوا الناس صرخاتهم المدوية في وجه النظام الفاسد، لارتباطاتهم بأذرع الأخير!

بحسب الناقد الفنّي إلياس سحاب، "يغيب عن متناول أيدي المنغمسين في "انتفاضة لبنان" ما هو أعلى موسيقيّاً، والأمر ليس مستغرباً، إذ لا تزال الشعوب العربيّة في خضمّ حفل تراجع الأغنية العربيّة، وحتّى هبوطها، مهما كان اللون، في مُقابل حفل تغيير اجتماعي قد يفرز جيلاً جديداً من السياسيين. للأسف، لا بصيص نور في الإطار الموسيقي، إلّا في تجربة زياد الرحباني، لو أنّه انخرط في موجة الأعمال الوطنيّة الجديدة".

يصف سحاب الإنتاجات الفنيّة الجديدة المولودة من رحم الشارع المنتفض بـ"المصيبة"، فهي "تفتقر إلى الإبداع في الكلام واللحن، ولا تُعبّر عن حركة الشارع وتحوّلاته"، بحسب قوله.

من جهةٍ ثانيةٍ، ثمَّة صورة مضيئة في المشهد الغنائي في الشارع، تنقل سخط الشباب اللبناني المنتفض بـ"أمانة" عبر الـ"راب"، فأعداد المستمعين إلى هذا الفن الاحتجاجي، في شقّه اللبناني، في ازدياد، والـ"راب" الدخيل على تطوّر الموسيقى العربيّة يشهد في الشارع تحلّقاً حول مؤدّيه، ولا سيّما من المراهقين والشباب، علماً أن مؤدّي الـ"راب" يوجّهون رسائل مباشرة إلى السلطة الحاكمة، بكلمات ذات نصل يذبح الراهن الرديء، وينزع الهالة عن المُقدّس، من دون أن يضلّ عن بوصلة فلسطين.

من بين التجارب الأكثر انتشاراً في هذا السياق، تحضر أغنيات مازن السيد (الراس) وبو ناصر دين الطفّار في الميادين. يقول الأخير في أغنية "نحنا والزبل جيران": "خنقوك جوّعوك غرّبوك، قوم. تفّهوك ضربوك حبسوك، قوم. همّشوكي سعّروكي ربّطوكي، قومي. ضريبة دم هاي مش ضريبة للحكومة".

المشارك في الاحتجاجات غير العارف بهذه الأغنيات، لا بدّ من أن يلتقط حين يبدأ مكبّر الصوت في بثّها كلمات قويّة تُشرّح الواقع المعيش وتُصوّب على النظام، بعيداً من معارضة "سخيفة" تكتفي بالـ"رتوش"، فيما الحشري سيبدأ بالطبع بالبحث عن نجوم الـ"راب" اللبنانيين. ومن أغنية إلى أخرى رائجة على شبكة الإنترنت، سيتكشّف له عالم هامشي مهمل في ماكينات السلطة الإعلاميّة؛ عالم نغمي يتحدّث لغته، ولا يوارب، أو يُهادن، أو يؤمن بأي خطوط حمر.

في أغنية "الراس" المنتشرة في صفوف الشباب، نسمع الآتي: "شوف وين صرنا شوف. شو بنينا شوف. شو كسرنا... شوف البلد كيف بزقتكم (بصقتكم) وما عاد إلكن مطرح". بكلمات محدودة، وبسيطة يخاطب الفنّان الشاب السياسيين، بلسان الناس، ذوي الأصوات المخنوقة.

لن تهدأ مكبّرات الصوت في الساحات، عسى أن تبثّ في القادم من الأيّام ما يعلي أصوات المنتفضين، بصدق. وفي الانتظار، "حيّ على خير الشغب"*.

*أغنية لناصر دين الطفار والدرويش.

"

كاتب لبنانية